وكالة مهر للأنباء- العميد د. امين محمد حطيط : قادت تركيا في الايام الأولى للحرب الكونية العدوان على سورية ميدانياً تحت توجيه واشراف مباشر من اميركا وظنت أنها ستسقط سورية في غضون شهرين او ثلاثة على الأكثر. لكن الميدان السوري سفه الأحلام التركية وحقق من الإنجازات العسكرية الميدانية ما فرض على أردوغان أن يُخفض من سقف أحلامه في سورية الى الحد الذي حصرها مؤخراً بإقامة منطقة نفوذ تركي يسميها منطقة آمنة يسكن فيها 4 ملايين سوري من المؤيدين له وفقاً لظنّه ما يمكنه من امتلاك قدرة التأثير والمشاركة في النظام السياسي في دمشق بعد مراجعة الدستور الذي ستراجعه اللجنة الدستورية التي شكلت مؤخراً. لكن طموح أردوغان الأخير يصطدم بأربع عقبات تتفاوت في تأثيرها وتعرقل تحقيق أهدافه حيث انه يواجه:
أولاً: وقبل أي شيء الرفض السوري لأي فعل او تدبير يمس بوحدة الأراضي السورية وبالسيادة السورية، ويعلم أردوغان ان هذا الرفض سيترجم فعلاً ميدانياً عندما تقضي الحاجة ويحل أوان المواجهة وفقاً لجدول الأولويات السورية في إطار الحرب الدفاعية التي تنفذها سورية بنجاح مع حلفائها في محور المقاومة وروسيا.
ثانياً: رفض منظومة استانة التي تجمع تركيا الى روسيا وإيران والتي تعمل تحت عنوان وحدة سورية وسيادتها وقرارها المستقل وهي ترفض أي دور للإرهاب والإرهابيين في صياغة مستقبل سورية، كما ورفض أي وجود أجنبي على الأراضي السورية دون قبول وموافقة من الحكومة السورية ولا يخفف من هذا الرفض ادعاء أردوغان أن عمله سيكون خدمة لوحدة الأراضي السورية.
ثالثاً: الصعوبات الميدانية الناجمة عن رفض الاكراد الحالمين بكيان انفصالي في الشمال السوري واستعدادهم للقتال لمنع تركيا من السيطرة على معظم المنطقة التي يحلمون بأن تكون دويلة لهم. ورغم ان هذا الامر الرفض الكردي ليس أمراً حاسماً يمنع تحقيق الاتراك من هدفهم الا انه يجعل من العملية التركية عملية صعبة محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة النتائج خاصة إذا كان من شأن العرقلة الكردية ان تطيل التنفيذ وتوقع الخسائر في صفوف الأتراك وتفرض تدخل أيادي خارجية فيها.
رابعاً: المراوغة الأميركية والتحفظ الأوروبي. فأميركا التي تنشر بضعة آلاف من جنودها في المنطقة وتقيم قواعد عسكرية فيها برية وجوية تأمل بأن تبقي الأكراد في قبضتها للسيطرة على الثروة النفطية السورية ولمنع العودة الى سورية الموحدة وتمنع الحل السياسي لا بل وتعمل لإطالة امد الصراع وفقاً لاستراتيجيتها المعلنة، ولذلك قد لا توافق اميركا في العمق على المطلب التركي بإقامة منطقة آمنة بعمق 40 كلم وبجبهة 460 كلم، لكنها لا تبدي الرفض القاطع للعملية بحيث يغضب تركيا، اما الاتحاد الأوروبي فقد كان صريحاً بتحفظه لا بل تحذيره من هذه العملية.
وبمقتضى هذه الرمادية أو الزئبقية دخلت اميركا مع تركيا في اتفاق إنشاء المنطقة الآمنة. واعتمدت في نص الاتفاق عبارات ملتبسة مكنتها من تهدئة تركيا في غرفة التفاوض والصياغة ثم تراجعت أثناء التنفيذ الى الحد الذي أفرغ الاتفاق من محتواه وكانت الدوريات المشتركة التركية الأميركية في سورية مثيرة للسخرية من الناحية العملانية والميدانية الى الحد الذي أفهم أردوغان بان الاتفاق لن ينتج منطقة أمنية كما يحلم.
هذه الخلاصة وضعت أردوغان في مأزق، تفاقم نتيجة أمرين آخرين: الأول داخلي ويتصل بالوضع في حزبه حزب العدالة والتنمية وما يعانيه من تشرذم وانشطار وتراجع في الشعبية الى حد تلقي الصفعات القاسية في الانتخابات البلدية الأخيرة والتي كانت بلدية إسطنبول أوجعها له، والثاني خارجي يتصل بمنظومة استانة والتزامات أردوغان حيالها في ادلب وموجباته بمقتضى مقررات سوتشي واستانة ذات الصلة بقواعد خفض التصعيد وتفكيك الجماعات الإرهابية وعلى رأسها جبهة النصرة.
لكل ذلك رأى أردوغان ان اللجوء الى العمل العسكري من جانب واحد في شمال شرقي سورية سيعزز موقعه في الداخل ويظهر قوته ومصداقيته وحرصه على معالجة الاخطار الاستراتيجية عند الحدود الجنوبية، كما ويعزز موقعه في اطار منظومة استانة التي سيبرر امامها عدم تنفيذ التزاماته في إدلب بانشغاله في شرقي الفرات لمعالجة الحالة الانفصالية الكردية وفي هذا خدمة لأهداف المنظومة المتمثلة بالمحافظة على وحدة الأراضي السورية، وهو ما يكسبه أوراقاً تلزمه في المسألة السورية ويقربه من الحد او الصورة الأخيرة من أهدافه فيها كما تقدم، لكل ذلك اعلن أردوغان أنه قرر انشاء المنطقة الأمنية منفرداً، وأنه لن ينتظر اميركا وانه لن يتوقف عند الصعوبات الميدانية التي قد ينتجها الأكراد ولم يشر الى الموقف السوري الإيراني الرافض لأي عمل عسكري على الأراضي السورية دون موافقة الحكومة السورية.
و في المقابل حذرت قسد من انها ستخوض حرباً شاملة على الحدود مع تركيا اذا نفذت الأخيرة تهديدها. ويبدو ان قسد كانت مطمئنة للموقف الأميركي حيالها، لكنها صدمت بقرار أقدمت عليه اميركا وبدون إبلاغها دون إبلاغ قسد تمثل بسحب نقاط المراقبة الأميركية الحدودية بين سورية وتركيا في تل أبيض وراس العين، في تدبير أوحى لتركيا بأنها لن تصطدم بمواجهة أميركية في حال تحركت ميدانياً، وأوحى لقسد ان اميركا تخلي الميدان لتسهيل حركة القوات التركية وان القوات الأميركية لم تف بالتزاماتها حيال «قسد» وسحبت وحداتها من المناطق الحدودية مع تركيا « ما اشعر «قسد» بالخيبة والشعور بأن تخلي اميركا عنها يقترب، خاصة بعد أن أبلغت اميركا قسد بأنها لن تقوم بالدفاع عنها وانها لن تقاتل الجيش التركي لا بل انها ستنسحب من كامل الحدود مع تركيا الى الداخل ما وضع قسد في موضع صعب وأشعرها بأن اميركا طعنتها في الظهر على حد قول قيادتها، فهل هذا صحيح؟
في البدء، لا بد من التذكير بان اميركا معتادة على التخلي عن أدواتها، وكان خطأ جسيماً ارتكبه الاكراد عندما ظنوا بان اميركا قد تفضلهم على تركيا عند تنازع المصالح، وان أردوغان ما كان ليقدم على عملية عسكرية في منطقة ينتشر فيها الاميركيون دون ان يضمن الموافقة الأميركية. وها هو يزعم بعد اتصال مع ترامب بأن «اميركا لا تمانع عملاً عسكرياً تركياً ضد المقاتلين الاكراد»، لكن رغم كل ذلك فاني لا أعتقد أن اميركا انقلبت على استراتيجيتها في سورية رأساً على عقب وتخلت دفعة واحدة عن الورقة الكردية وأنها بصدد تسليم منطقة شرقي الفرات كلياً الى تركيا، فالأكراد لا زالوا يوفرون لأميركا غطاء ومصلحة تفرض بقاءها معهم بقدر محدد ولفترة تلزمها لترتيب وضعها المؤقت في سورية من دون ان تتضرر علاقتها بتركيا خلال تلك لفترة.
اما الأساس في مواجهة الخطة التركية فهو موقف سورية التي هي ومحور المقاومة وروسيا ليسوا في موقع القبول بعمل عسكري تركي منفرد دون تنسيق مع دمشق. عمل من شأنه ان يقيم سيطرة عسكرية تركية على ارض سورية بمساحة تعادل تقريباً مساحة لبنان، لا بل إن سورية وإيران وروسيا جميعا ينتظرون من تركيا تنفيذ التزاماتها في إدلب وفق مخرجات سوتشي واستانة وهي التزامات لا يتقدم عليها شيء وأن إشغال تركيا نفسها بما لم تكلّف به ليس من شانه ان يحجب تلك الالتزامات، بل ستجد تركيا ان الجيش العربي السوري سيتابع عمله العسكري ويسحب من يدها ورقة إدلب كما فعل في خان شيخون وتكون تركيا قد خسرت ورقة إدلب ولم تربح ورقة شرقي الفرات بشكل مستقر.
لكل ذلك نرى أن العملية العسكرية التي تتحضر لها تركيا شمالي الفرات ستكون من طبيعة العمليات المبتورة العقيمة التي لن تحقق أهدافها، وبالتالي لن تنتج الاثر السياسي الذي تعول تركيا عليه ولن تعالج مأزق أردوغان لا بل انها ستفاقمه لما ستتسبب به من خسائر عسكرية وفي صفوف المدنيين كما حذرت الأمم المتحدة، فضلا عن التداعيات السياسية الخارجية خاصة مع إيران وسورية. وعلى أردوغان ان يعلم ان الطريق الصحيح لتحقيق مصالح تركيا وجيرانها لا يكون بعدوان إضافي على سورية، بل يتمثل بالعمل المشترك مع مظلة استانة الثلاثية وتنفيذ القرارات المتعلقة بإدلب أولاً ثم التوجه لمعالجة الحالة الانفصالية شرقي الفرات. وكل سلوك تركي خارج هذا السياق سيكون خطاً وهدراً للوقت وللجهد ومنتجاً لفشل جديد يلحق بلائحة العمليات التركية الفاشلة منذ9 سنوات.
المصدر: البناء
تعليقك